منذ أن تأسست دولة الكيان الصهيوني بعد القرار الأممي رقم 181 في 29تشرين ثان(نوفمبر) 1947 الخاص بتقسيم فلسطين، اكتسب الصراع العربي الإسرائيلي العديد من المسلمات التي درستها عديد المؤسسات التعليمية العسكرية داخل وخارج الوطن العربي، وقد نبع كل ذلك بالأساس من الخطط والمعارك الحربية التي خاضتها إسرائيل في عدوانها على البلدان العربية، منذ العام 1948وحتى ما قبل طوفان الأقصى في7تشرين أول(أكتوبر)2023، مرورا بحرب حزيران (يونيو)1967، التي تسميها إسرائيل بحرب الأيام الستة، وحرب تشرين أول(أكتوبر)1973، والحروب المتوالية على لبنان أعوام 1978و1982و1996و2006، بالإضافة إلى عديد الضربات الخاطفة للكيان الصهيوني إزاء كل من العراق وتونس والسودان وسوريا.
لكن على ما يبدو فإن تلك المسلمات قد تغيرت اليوم بفعل طوفان الأقصى، الذي أجبر إسرائيل أن تخوض معارك من نوع جديد لها سمات جديدة لم تكن تعتاد عليها من قبل، فأنهت ما مردت عليه من عقيدة عسكرية لازمتها منذ تأسيسها حتى اليوم.
الحرب على أرض الغير
وتعتبر الحرب على أرض الغير هي واحدة من أبرز الأمور التي كانت تسعى إسرائيل لها منذ تأسيسها، لما في ذلك من رغبة في غطرسة القوة، وسمة من سمة العدوان، كما أن تلك الصفة مهمة لكونها تشعر دوما بأنها بقعة صغيرة لا تتحمل خوض الآخرين المعارك على "أرضها"، ناهيك عن أن خوض الحرب على أرض الخصم يعطى للمواطن الصهيوني الشعور بالأمان في تلك البقعة من العالم التي يشجع فيها الكيان الصهيوني يهود العالم على الهجرة إليها.
هنا كان طوفان الأقصى قد نقل المعركة إلى "أرض" العدو، فبات الطرف العربي يحارب عليها، لكي يشعر الخصم بعدم جدوى منطق الاستعلاء وغطرسة القوة، وأن الأمن الذي يبغيه العرب لن يكون إلا بالسلام العادل، وترك الأرض لأصحاب الأرض. صحيح أن نقل المعركة لأرض الخصم كان قد تم قبل طوفان الأقصى، من خلال الرد على العدوان الإسرائيلي المتكرر، بقصف البلدان داخل الكيان الصهيوني، لكن ما من شك أن كثافة الهجمات بفعل طول المعركة، قد تمخض عن اتساع الضربات في الداخل كما وكيفا، فباتت تل أبيب ويافا وحيفا وبئر سبع وصفد في المرمى اليومي لنيران القسام وسراي القدس، وبعد أن اشتبك حزب الله وكذلك جماعة أنصار الله الحوثي في المعارك، أصبحت فوق تلك البلدات نيران المقاوم العربي تطال الجليل وطبرية والمرتفعات السورية وأم الرشراش(إيلات).
تجربة الحرب الطويلة
وكانت تجربة الحرب الطويلة من التجارب التي لم يعهدها جيش الاحتلال الصهيوني أيضا، إذ كانت أقصى معركة قد دخلها هي معركة غزو لبنان 1982، التي استمرت بضعة أشهر، صحيح أن إسرائيل خرجت من لبنان عام 1985، لكن كل تلك الفترة لم يكن بها معارك يومية تخوضها. نفس الأمر في حرب النكبة عام 1948، حيث استمرت الحرب من مايو 1948 حتى مارس 1949، أي ما لا يزيد عن 11 شهرا. أما حرب عام 1956 فلم تستمر أكثر من 10 أيام. اليوم ينغمس الكيان الصهيوني في حرب يومية ومعارك مستمرة تجاوزت العام، ما يجعل المعارك التي يخوضها تختلف عن المعارك السابقة، التي اعتاد على خوضها، ما يشي بحرب استنزاف كبيرة لم يعتاد عليها في الأغلب الأعم.
الحرب على عدة جبهات
منذ العام 1967، أي بعد نصف قرن ونيف، لم تخض إسرائيل الحرب على عدة جبهات. اليوم يخوض جيش الاحتلال الصهيوني بجيل جديد حربا من نوع آخر، حيث تتعدد جبهات القتال، ففوق الجبهة الخاصة بقطاع غزة، هناك الجبهة اللبنانية، وعلاوة على ذلك شاركت إسرائيل بالرد على عديد العمليات التي قامت بها جماعة أنصار الله الحوثي، داخل اليمن. كما كانت هناك أعمال قتال أخرى في سوريا، وقد قامت إسرائيل في 26تشرين أول أكتوبر2024 بالرد على الهجوم الإيراني عليها، والذي جاء بعد ضرب إيران لها، عقب العدوان المتكرر على إيران والمصالح الإيرانية في سوريا وكذلك الجماعات الموالية لإيران في أكثر من موقع. إن مسألة فتح عديد الجبهات للقتال هو عمل كبير، لم تعتاد عليه إسرائيل من قبل، وهو بلا شك يكلفها الكثير من الموارد، ويجعل طاقة القتال فوق القدرة العادية، وبطبيعة الحال فإن هذه الصفة الجديدة لا ترتبط فقط بالدعم الأمريكي خاصة والغربي عامة للكيان الصهيوني، إذ أن هذا الدعم متواصل منذ نشأة هذا الكيان، لكن –وهذا هو الأهم- مرتبط بسعى إسرائيل لإدراك خصمها وشركائها في الإقليم أنها القوى العظمى الوحيدة في المنطقة، ما يجعلها تغير من عقيدتها العسكرية.
الخوض في حروب شوارع
لم تعتاد إسرائيل أن تخوض حرب شوارع أو حرب عصابات، فمنذ أن شنت العصابات الصهيونية عند تأسيس الدولة حرب شوارع في المدن الفلسطينية، قلما تقوم إسرائيل بدخول الشوارع وتدير قتالا فيها من بين إلا بيت. صحيح أنها اشتبكت في الضفة الغربية مع الفلسطينيين في عدة مدن، وقامت الجماعات الإرهابية من المستعربين الصهاينة بعديد العمليات لتصفية الخصوم في المدن الفلسطينية المختلفة، إلا أن قيام جيش الاحتلال بخوض حرب شوارع على هذا المدى الزمنى الكبير هو ما لم تعتاد عليه، وهو ما يبرر كم الخسائر الكبير في صفوف جنودها، لعدم اعتياد جيشها النظامي على ذلك، ولأن الأرض -من شوارع ومدن وأزقة- دائما تكون وكما يقول العسكريين هي رديف قوى للدفاع عن أصحابها.
إسرائيل لا تبكي ضحاياها
إضافة لكل ما سبق، من المعروف أن إسرائيل دائما ما كانت تخوض الحروب وتشعل الجبهة مع أي طرف عربي لمجرد أن يصاب أو يقتل جندى واحد من قواتها. اليوم نجد كما لو كان هناك تغير في عقيدة جيش الاحتلال الصهيوني، فيقتل منه المئات ويصاب منه الآلاف دون أن يزرف دمعا على هؤلاء. في السابق كانت إسرائيل تدفع أحيانا في الصفوف الأولى قوات من الأفارقة اليهود، أو السفرديم، حتى أن البعض نعت مسلكها بالعنصري في الحروب التي تخوضها مع العرب. اليوم نجد أن إسرائيل تدفع بوحدات من جنود النخبة من عصب الجيش دون تفرقة أو تصنيف عنصري لهؤلاء. وقد كان الغريب في الأمر أنها أصبحت تخوض الحرب الحالية دون تحوط أو تخوف من أعمال القتل والقنص التي يتعرض لها هؤلاء، بل أنها في الكثير من الأحيان تكرر الأخطاء ما يعرض جنودها للقتل بسهولة، كالوقوف على فتحات الأنفاق، والاحتماء بالبيوت التي قد تكون مفخخة ...وهكذا. المهم أنها أصبحت أكثر جرأة وتحملا للخسائر من ذي قبل.
جيش لا يعبأ بأسراه
أعلنت إسرائيل منذ اليوم الأول لحرب غزة أن الهدف من الحرب –فوق تدمير حركة حماس- هو تحرير أسراها لدى حركة حماس، لكن هذا الهدف يبدو أنه تلاشى في زخم الحرب. لقد خاضت إسرائيل عديد الحروب الخاطفة مع جيرانها من أجل تحرير أسير واحد أو اثنين. اليوم يوجد العشرات في أيدي حماس (101 أسير) ولا يعبئ حكام إسرائيل بتحريرهم. بل أن المفاوضات التي كانت تجرى بوساطة قطرية ومصرية لوقف الحرب، وكان تحرير الرهائن سلميا من خلال مبادلاتهم أحد أهم أهدافها، قد توقفت منذ عدة أسابيع على خلفية تعقد الموقف العسكري والأمني بعد إمعان إسرائيل فى المغالاة في مطالبها، ونقض ما اتفقت عليه في جلسات المفاوضات بشكل متوالي، ثم في النهاية قيامها باغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في طهران في31 تموز(يوليو)2024، ثم يحي السنوار في17 تشرين أول(أكتوبر)2024 . . .